من المسلمات أن النظام
الجمهوري القائم في البلاد يقوم على أساس وجود سلطات ثلاث في البلاد هي السلطة
التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وهذه السلطات الثلاث المفترض أن
تعمل كل في مجال ولايتها الدستورية سواسية ودون توقف من قبلها مجتمعة أو منفردة
ولا يجوز لها أو لإحداها التوقف عن عملها أياً كانت الأسباب والدوافع ولا يستقيم
النظام كنظام دستوري إلا بذلك، وفي الغالب الأعم يكون التظاهر أو الإضراب أو
الاعتصام حق للجماعات أو الأفراد في مواجهة الدولة بسلطاتها الثلاث أو في مواجهة
أي من تلك السلطات منفردة، حتى يتم معالجة الأسباب التي لأجلها تظاهر الناس أو
اعتصموا أو أضربوا من قبل السلطة ممثلة بالدولة، غير أننا في الآونة الأخيرة وجدنا
السلطة القضائية جزئياً أو كلياً تضرب عن العمل وتمتنع عن قيامها بولايتها المخولة
لها بمقتضى الدستور والقوانين النافذة، وإذا كان الإضراب حق للناس فراداً كانوا أو
جماعات وتم تنظيمه في قانون التظاهر في مواجهة الدولة وهو ما يستند إليه الناس
الذين يضربون عن العمل لأي سبب من الأسباب غير أن الناس يستندون في استعمال ذلك
الحق إلى قانون نافذ، وإذا كانت السلطة القضائية كسلطة ثالثة في النظام الجمهوري
لا يقوم النظام الجمهوري إلا بها وأدائها لواجباتها وعملها وفقاً للدستور فإن
إضراب السلطة القضائية يعد تعطيلاً للدستور النافذ وإخلالاً به فضلاً عن أن ذلك
الإضراب لا يستند إلى تشريع نافذ وهو ما يغنينا عن الخوض حول مشروعية إضراب السلطة
القضائية في البلاد من عدمه.
صحيح أن الاعتداء على
القضاة أو الإساءة إليهم أو النيل من القضاء يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون ويستوجب
مسائلة مرتكبها وإخضاعه لطائلة المسائلة والعقاب وذلك من قبل السلطة كدولة
بسلطاتها الثلاث عبر النيابة العامة كجهاز قضائي في السلطة القضائية بولاية القبض
والتحقيق والإحالة والحبس والتصرف في الوقائع أو من قبل قضاة المحاكم القائمة، ولكن
على أساس أن من يملك ولاية المسائلة وإخضاع المجرمين للمحاكمة والعقاب هم قضاة
آخرون غير القضاة الذين وقعت تلك الجرائم عليهم، أما في حالة أن يضرب جميع القضاة
المنتسبين للجهاز القضائي في البلد كله رغم عدم جوازه دستورياً فإن ذلك يجعل كافة
أعضاء النيابة وقضاة المحاكم المضربين في حكم الخصوم للجناة مرتكبي تلك الجرائم
بدون استثناء، ومن البديهي أن حق النيابة كجهاز من أجهزة القضاء في القبض على
الجناة والتحقيق معهم وإحالتهم للمحاكمة وطلب الحكم بإدانتهم ومعاقبتهم وفقاً
للقانون مرتبط بضرورة ممارستهم لواجباتهم تلك في إطار توافر عنصر الحياد فيهم، فضلاً
عن أن قضاة المحاكم المضربين قد فقدوا عنصر الحياد الذي لا يجوز للقاضي إجراء
المحاكمة إلا بتوفره على نحو يقيني وبافتقاد عنصر الحياد تفتقد صلاحية القاضي
للقضاء المضرب في قضية يكون القاضي طرفاً في الإضراب وأحد طرفي الخصومة ومن ثم فإن
جميع أعضاء النيابة وقضاة المحاكم في عموم الجمهورية يعدوا في حالة الإضراب الشامل
كما هو الحال الآن في البلاد طرف في الخصومة مع الجناة المفترض إخضاعهم على ما
ارتكبوه من أعمال إجرامية في حق أي قاضي لطائلة المسائلة والعقاب، ومن البديهي
استحالة الجمع بين أن يكن أحد طرفي الخصومة خصماً وقاضياً في الدعوى، ولا يخفى
المأزق الذي يمكن أن تصل إليه السلطة بمكوناتها الثلاث المنصوص عليها في الدستور
لأن الإضراب الكلي الكامل لأعضاء السلطة القضائية يحول القضاة المضربين إلى خصوم
لبعض أفراد الشعب من مرتكبي الجرائم وهو ما يوجد الذريعة لأولئك المجرمين إلى
المطالبة بقضاة محايدين من خارج البلاد وفي جميع الدرجات القضائية بما يستتبع ذلك
من إخلال بالسيادة وانتهاك لسياسة البلاد والعباد ومسخ إحدى سلطات الدولة الثلاث
من النظام القائم الأمر الذي يوجب إعادة النظر في موضوع إضراب السلطة القضائية
برمتها لتعلق الإضراب بسيادة الدولة وبالمساس بالدستور النافذ وهو ما يجب معالجته
ووضع حلول مناسبة له بعيداً عن موضوع إضراب القضاة وبعيداً عن أن يتحول أعضاء
السلطة القضائية من قضاة محايدين إلى خصوم حاقدين، فالدولة بسلطاتها الثلاث مسئولة
عن حياة رعاياها وأعراضهم وأموالهم ومن أولئك القضاة الذين يتعرضون للاعتداءات
المتكررة وأياً كانت الخطورة التي تشكلها الاعتداءات الواقعة على القضاة من قبل
بعض شذاذ الآفاق إلا أن معالجة تلك الظاهرة يجب أن تتم بعيداً عن ممارسة حق
الإضراب في البلاد وبعيداً عن تحول أعضاء السلطة القضائية إلى خصوم لمرتكبي
الجرائم وبما يترتب على ذلك من محاذير دستورية وانتهاك لسيادة البلاد واستقلالها
كمبدأ دستوري لا يختلف حوله اثنان، والمستغرب هنا أن أعضاء نادي القضاة ومجلس
القضاء الأعلى يتوقفون عند الجرائم المرتكبة ضد أعضاء النيابة وقضاة المحاكم
ومعالجة ذلك بعيداً عن مقتضى النصوص القانونية المنوط بالسلطة القضائية قبل غيرها
تطبيقها والتقيد بها ولذلك نجد أن نادي القضاة ومجلس القضاء قد رأيا في الإضراب
الشامل للسلطة القضائية عن العمل هو الوسيلة المثلى لمعالجة الظاهرة الخطيرة
بالاعتداء على أفراد السلطة القضائية بما في ذلك من مخاطر تتعلق بتعطيل الدستور
النافذ أو مخالفته فضلاً عن أن الإضراب عن العمل القضائي والامتناع عن أداء
الوظيفة القضائية يعتبر جريمة إنكار العدالة بحسب النصوص القانونية النافذة وهو ما
قد يخضع جميع منتسبي السلطة القضائية للمسائلة والعقاب وبذلك تتحول معالجة جرائم
الاعتداء على منتسبي السلطة القضائية بواسطة الإضراب عن العمل إلى ارتكاب جريمة
أخرى لا تقل خطورة عن جريمة الاعتداء على القضاة وممن يكون ذلك؟ وللأسف من قبل
القضاة المنوط بهم تحقيق الجرائم الجنائية في المجتمع والفصل فيها، ناهيك عن أن
جميع المتقاضين في البلاد أمام المحاكم الشرعية مدعين كانوا أو مدعى عليهم يصبحون
مجني عليهم جراء امتناع القضاة المضربين عن العمل القضائي في كل القضايا المطروحة على
المحاكم من نظر تلك الدعاوى وإقامة العدل بشأنها جراء الإضراب ولو افترضنا جدلاً
أن عدد النيابات والمحاكم في عموم الجمهورية لا يقل عن ألف وخمسمائة نيابة ومحكمة
وأن كل نيابة أو محكمة مطروح أمامها عدد أربعمائة شكوى أو دعوى أو قضية وأن أطراف
الدعوى من مدعين ومدعى عليهم هم فقط مدعي واحد ومدعى عليه واحد فإن عدد المتقاضين
أمام كل محكمة ونيابة سيكون ثمانمائة شخص شاك أو مشكو به أو مدعي أو مدعى عليه وكل
تلك الأعداد تصبح مع الإضراب مجني عليها لامتناع النيابات والمحاكم عن نظر قضايا
المتقاضين وكل ذلك يرجع إلى أن بعض المجرمين ارتكبوا في حق أحد أعضاء النيابة أو
قضاة المحاكم جريمة من الجرائم التي لا يملك ولاية تحقيقها والفصل فيها قضائياً
سوى القضاة وأعضاء النيابة العامة ومعلوم من التشريع بالضرورة أن الإضراب كحق
يمتلكه المواطن الذي يجوز له ممارسة ذلك الحق يتم في مواجهة السلطة قضائية كانت أو
تنفيذية أو تشريعية في حين أن إضراب القضاة كسلطة قضائية دستورية تملك ومعها
السلطتين التنفيذية والتشريعية كل في مجال اختصاصها إيجاد حلول لمطالب المضربين من
مواطني الدولة أو للمسائل التي لأجلها وقع الإضراب تتحول في حال الإضراب الشامل أو
الجزئي إلى مطالبة بمعالجة المشكلة التي كانت سبباً في الإضراب مع أن ارتكاب جريمة
من جرائم الاعتداء على القضاة تستوجب وفقاً للدستور والقوانين النافذة على النيابة
العامة كهيئة قضائية تحريك الدعوى الجنائية بواقعة الاعتداء والتصرف بشأنها ورفعها
أمام المحاكم المختصة ضد الجناة وذلك يعني أن الإضراب الذي تمارسه السلطة القضائية
يعتبر خرقاً للدستور وتعطيلاً للقوانين النافذة وتعطيلاً للوظيفة الدستورية للسلطة
القضائية بل وامتناعاً عن إنصاف المعتدى عليهم من أفراد السلطة القضائية أنفسهم مع
أن عدم إلقاء القبض على الجناة أو حبسهم ليس شرطاً لصحة تحريك الدعوى الجزائية
ورفعها ومباشرتها فالكثير من القضايا الجنائية يتم رفعها وتحريكها ومباشرتها أمام
المحاكم ولو لم يتم إلقاء القبض على الجناة أو حبسهم بل وتجري محاكمتهم غيابياً
كمتهمين فارين من وجه العدالة فحضور المتهم أو إلقاء القبض عليه أو حبسه حبساً
احتياطياً الغرض منه كفالة حقوق الدفاع للمتهم لكي يحاكم محاكمة عادلة ويستحق
العقاب الموقع عليه بوجه الحق والعدل. والسؤال هنا ماذا فعلنا بشأن جريمة الاعتداء
على القاضي المعتدى عليه من وجهة نظر قانونية بحتة؟ بدلاً عن الإضراب المستمر بكل
مخاطره بدون جدوى؟ ولعل الأخوة في نقابة المحامين قد أوضحوا للأخوة الأجلاء رئيس
وأعضاء نادي القضاة عند اللقاء بهم بشأن موضوع الإضراب كل ذلك أو بعضاً منه غير أن
الأخوة في نادي القضاة رغم تفهمهم لكل ما ذكر أو بعضه تذرعوا في أن بياناً من
النادي قد صدر بشأن استمرارية الإضراب لكافة أعضاء السلطة القضائية في عموم
الجمهورية حتى تتحقق جميع المطالب ومع أن الإمام مالك رضي الله عنه قد قال: ((كل
إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبره صلى الله عليه وسلم))
فإن إصرار الأخوة في نادي القضاة على استمرارية الإضراب بذريعة البيان الذي أصدره
النادي لا مبرر له خاصة أنه صلى الله عليه وسلم قد سئل عن موقفه في اختيار مكان
المعركة وتركه آبار المياه متوسطة بين معسكره ومعسكر الكفر والإلحاد يستفيد منها
الطرفان بقول الصحابة الذين لهم خبرة ودراية بالحرب ((أموقع أنزلك إياه الله أم
أنها الحرب والمكيدة)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل هي الحرب والمكيدة)) فقالوا
الرأي الصائب أن تغور آبار المياه كلها باستثناء بعضها الذي يجب أن نتركها خلف
معسكرنا نستفيد منها نحن ولا يستفيدون هم منها فنزل عند رأيهم ولم يتذرع بأن رأياً
منه قد سبق وأنه يجب التوقف عليه وهو ما نأمل معه من الأخوة في نادي القضاة
الأجلاء مراجعة موضوع إضراب السلطة القضائية والعمل على إنهائه أو تعليقه على
الأقل فالرجوع إلى الحق خير من التمادي فيما سواه والله حسبنا ونعم الوكيل.