موقف الفقه
الإسلامي من الإجهاض
المقدمة:
شرع
الله عز وجل النكاح وحثّ عليه ورغّب فيه، وجعله آيةً وعبادة، ومودةً وسعادة.
ولأهمية
النسل, جعلته الشريعة الإسلامية أحد الضروريات التي لا تستقيم الحياة بدونه, لذا أحاطته
بسياج منيع، وحافظت على حقوقه في كافة مراحل حياته, فحفظت للأجنّة منزلتها وحرمتها
وحقوقها، وسنّ أحكاماً دقيقة لرعايتها والحرص على سلامتها ومنع إجهاضها في جميع مراحل
نموها, بل إنّ الحقّ تبارك وتعالى عدّ الأجنّة من الآيات الكبرى الدالّة على عظمته
وبديع صنعه، وجعلها برهاناً على أُلوهيته، وآيةً على البعث والنشور, يقول جل وعلا:
(فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ, خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ, يَخْرُجُ مِن بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ, إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لقادر, يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ,
فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ) الطارق الآية ( 7)
في هذا
البحث المتواضع, سنوضح بأذن الله الاحكام التي سنها الإسلام للحفاظ على الأجنة, وبيان
رأي فقهاء المذاهب الأربعة في إجهاضها , متمنيا التوفيق من الله عز وجل.
الإجهاض في
اللغة:
مُجْهَض،
يطلق على الحامل التي أسقطت حملها, وعلى السِّقْط, جهيض, و يُطلَق الإجهاض غالباً على
اسقاط الولد ناقص الخلْقة، أو الذي لم يستبن خَلْقه، لكنه قد يُطلق على ما تم خلقه
بعد نفخ الروح, ويأتي بمعنى الإملاص، أي الانفلات.
الإجهاض في
اصطلاح الفقهاء:
هو إلقاء
الحمل مطلقاً، سواء كان ناقص الخْلِقة, أو ناقص المدة، مستبين الخلقة أم لا، نُفخت
فيه الروح أو لم تنفخ، قصداً أم بغير قصد, أم تلقائياً.
أنوع الإجهاض:
1-
الإجهاض العلاجي:
و يعرف
أيضا بالطبي, حيث أن الطبيب الأخصائي هو من
يقوم بهذه العملية كطريقة علاجية, إذا أتضح أن هذا الحمل يضر الأم أكثر مما ينفعها.
2-
الإجهاض المفتعـل (الجنائي) :
هو إجهاض
إرادي مرغوب فيه, حيث تتعمد الأم عملية نزع الجنين لأسباب مختلفة, قد تكون اقتصادية
أو اجتماعية, أو عدم الرغبة في حالة الحمل الغير شرعي.
3-
الإجهاض التلقائـي:
يختلف
هذا النوع من الإجهاض من النوعين السابقين حيث يحدث لاإراديا, و ينسب معظم الأطباء
أن هذا النوع يحدث لعدم استعداد الرحم للوصول بهذا الحمل حتى الولادة, فيطرده في الغالب
ابتداء من الأشهر الأولى.
أركان الإجهاض:
1-
الركن الشرعي:
وهو
الركن الذي يتعلق ببيان الأحكام والنصوص الشرعية المتعلقة بالتجريم والعقاب، ومدى قوتها،
ومجال تطبيقها, ويستند على القاعدة الفقهية (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)
2-
محل الجريمة (الجنين)
ويشترط
في وقوع الجريمة على الجنين:
-
وجود حمل، حتى يمكن طرده واخراجه بفعل الإسقاط.
-
أن يكون الجنين حياً في بطن أمه، قبل عملية
الاعتداء.
-
أن ينفصل الجنين (كله) عن أُمه (ميتاً)
وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
أن يكون
الانفصال (كله) (في حياة الأم) وهو مذهب الحنفية والمالكية,
ويترتب
على هذا الشرط أن انفصال الجنين ميتاً بعد موت أُمه لا يعدّ جريمة إجهاض، لأن موت الأُم
سبب ظاهر لموته على الأغلب، فتحقق موته بموتها.
-
اشترط جمهور الفقهاء أن يكون الجنين المسقَط
(الجهيض) قد تجاوز المضغة وبدأ في مرحلة التصور، بصورة الآدمي جلياً أم خفياً، أو استبان
بعض خلقه، أو انفصل لوقتٍ يعيش لمثله, لكن المالكية وبعض الشافعية والحنابلة يخالفونها
الرأي, ويقولون بحرمة الإجهاض منذ لحظة التلقيح الأُولى، ومسؤولية الجاني مسؤولية كاملة
عن اعتدائه.
حكم الإجهاض:
من الفقهاء
من فرّق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح ، وبين حكمه قبل ذلك, وبعد التّكوّن في الرّحم
والاستقرار ، ولمّا كان حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح موضع اتّفاق, فإنه من المناسب البدء
به, ثمّ التّعقيب بحكمه قبل نفخ الرّوح ، مع بيان آراء الفقهاء واتّجاهاتهم فيه :
أولا: حكم الإجهاض
بعد نفخ الرّوح:
اتفق
الفقهاء على أنّ نفخ الروح يكون بعد مئةٍ وعشرين يوماً من الحمل، والدليل على ذلك قول
النبي صلى الله عليه وسلم:
إن أحدكم
يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك،
ثم يَبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجَله وشقي أو
سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع
فيسبق عليه كتابُه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع،
فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة) متفق عليه.
الدليل المستمد من هذا الحديث هو قوله صلى الله عليه
وسلم: (ثم ينفخ فيه الروح) جاء هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، فكل طور مدته
أربعون يوماً، ليكون مجموع الأطوار مائة وعشرين يوماً.
من هنا
ذهب الأئمة والفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر.
قال
القرطبي(لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام
أربعة أشهر، ودخوله في الخامس)
وقال
النووي(اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر)
وقال
ابن حجر(اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر)
ولا
يعلم خلاف بين الفقهاء في تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح.
فقد
نصّوا على أنّه إذا نفخت في الجنين الرّوح, حرّم الإجهاض إجماعاً, وقالوا إنّه قتل
له ، بلا خلاف.
والّذي
يؤخذ من إطلاق الفقهاء تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح, أنّه يشمل ما لو كان في بقائه خطر على حياة الأمّ.
ثانيا: حكم
الإجهاض قبل نفخ الرّوح :
في حكم
الإجهاض قبل نفخ الروح اتجاهات مختلفة وأقوال متعددة, حتى في المذهب الواحد , فمنهم
من قال بالإباحة مطلقا, ما لم تنفخ فيه الروح,
ومنهم
من قال بالإباحة لعذر فقط, ومنهم من قال بالكراهة
مطلقا ومنهم من قال بالتحريم.
قول الشافعية
والحنفية:
للشافعية
والحنفية قولان:
القول الأول: تحريم إسقاط الحمل الذي لم تنفخ فيه الروح،
وهو ما كان عمره مائة وعشرين يوما، وقالوا( لا يشكل عليه العزل، لوضوح الفرق بينهما،
أن المني حال نزوله لم يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد الاستقرار في الرحم وأخذه في
مبادئ التخلق)
القول الثاني: ذهب جماعة من الحنفية والشافعية إلى جوازه,
قال ابن الهمام في (فتح القدير) (وهل يباح
الإسقاط بعد الحبل ؟ يباح ما لم يتخلق شيء منه ، ثم في غير موضعٍ قالوا : ولا يكون
ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما, وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح وإلا فهو
غلط, لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة )
وقال
الرملي في (نهاية المحتاج) (الراجح تحريمه بعد نفخ الروح مطلقا، وجوازه قبله ).
وفي
حاشية قليوبي (نعم، يجوز إلقاؤه ولو بدواء قبل نفخ الروح فيه)
وقال
المرداوي في (الإنصاف) (يجوز شرب دواء لإسقاط نطفة)
قول الحنابلة:
قال
ابن رجب الحنبلي في (جامع العلوم والحكم) : ورُوي عن رفاعة بن رافع قال : جلس إليَّ
عمر وعليٌّ والزبير وسعد في نفر مِنْ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكَروا
العزلَ، فقالوا : لا بأس به، فقال رجلٌ : إنَّهم يزعمون أنَّها المؤدة الصُّغرى، فقال
علي : لا تكون موؤده حتَّى تمرَّ على التَّارات السَّبع : تكون سُلالةً من طين، ثمَّ
تكونُ نطفةً، ثم تكونُ علقةً، ثم تكون مضغةً، ثم تكونُ عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون
خلقاً آخرَ، فقال عمرُ : صدقتَ ، أطالَ الله بقاءك . رواه الدارقطني في (المؤتلف والمختلف).
ثم قال
ابن رجب (وقد صرَّح أصحابنا بأنَّه إذا صار الولدُ علقةً، لم يجز للمرأة إسقاطُه, لأنَّه
ولدٌ انعقدَ، بخلاف النُّطفة، فإنَّها لم تنعقد بعدُ، وقد لا تنعقدُ ولداً.
قول المالكية:
للمالكية
قولان:
القول الأول: تحريم إسقاط الحمل، فقد جاء في الشرح الكبير(ولا
يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم
إجماعا).
القول الثاني: كراهة إسقاط الحمل، وقد نقل هذا القول الدسوقي.
عقوبة الإجهاض:
اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الجناية على جنين
الحرّة هو غرّة,
لما
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره (أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى ، فطرحت
جنينها ، فقضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغرّة عبد أو وليدة ) .
واتّفق الفقهاء على أنّ مقدار الغرّة في ذلك هو نصف
عشر الدّية الكاملة ، وأنّ الموجب للغرّة كلّ جناية ترتّب عليها انفصال الجنين عن أمّه
ميّتاً ، سواء أكانت الجناية نتيجة فعل أم قول أم ترك ، ولو من الحامل نفسها أو زوجها
، عمداً كان أو خطأً.
ويختلف
الفقهاء في وجوب الكفّارة ( وهي العقوبة المقدّرة حقّاً للّه تعالى مع الغرّة)
والكفّارة هنا هي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام
شهرين متتابعين.
فالإمــام
أبو حنيفة فَرِّق بين انفصال الجنين ميتاً، وانفصاله حياً، ويوجب الكفارة في الحالة
الثانية دون الأولى، لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغُرَّة،
وليس من بأس في أن يتقرب بها الجاني إلى الله في الحالة الأولى، فذلك أفضل له، مع أنها
غير واجبة عليه.
أما
الحنابلة فيرون وجوب الكفارة على سبيل الإطلاق، فعلى كل جانٍ (في هذه الجناية) عتق
رقبة، سواء أكان الجنين حياً أم ميتاً، وهذا قول أكثر أهل العلم, منهم الحسن، وعطاء، والزهري، والحكم، ومالك، والشافعي.
قال ابن المنذر (كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أوجب
على ضارب بطن المرأة تلقي جنيناً، الرَّقَبَة مع الغُرَّة)
وسند
هذا الرأي قول الله تعالى : (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمنـا
خطأ فتحـرير رقبة مؤمنة)، إلى قوله : (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة
إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) النساء الآية (92)
الإجهاض المعاقب
عليه:
يتّفق الفقهاء على وجوب الغرّة بموت الجنين بسبب
الاعتداء، كما يتّفقون على اشتراط انفصاله ميّتاً، أو انفصال البعض الدّالّ على موته,
إذ لا
يثبت حكم المولود إلاّ بخروجه, ولأنّ الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت، وبالإلقاء
ظهر تلفه بسبب الضّرب أو الفزع ونحوهما، غير أنّ الشّافعيّة قالوا, لو علم موت الجنين
وإن لم ينفصل منه شيء فكالمنفصل.
والحنفيّة
يعتبرون انفصال الأكثر كانفصال الكلّ، فإن نزل من قبل الرّأس فالأكثر خروج صدره، وإن
كان من قبل الرّجلين, فالأكثر انفصال سرّته.
والحنفيّة
والمالكيّة يتفقان على أنّه لا بدّ أن يكون ذلك قبل موت أمّه,
قال
الحطّاب والموّاق (الغرّة واجبة في الجنين بموته, قبل موت أمّه)
وقال
ابن رشد (ويشترط أن يخرج الجنين ميّتاً, ولا تموت أمّه من الضّرب)
أمّا
الشّافعيّة والحنابلة فيوجبون الغرّة, سواء أكان انفصال الجنين ميّتاً حدث في حياة
الأمّ, أو بعد موتها, لأنّه كما يقول ابن قدامة (جنين تلف بجناية، وعلم ذلك بخروجه،
فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها,
ولأنّه
لو سقط حيّاً ضمنه، فكذلك إذا سقط ميّتاً كما لو أسقطته في حياتها)
ويقول
زكريّا الأنصاريّ (ضرب الأمّ، فماتت ، ثمّ ألقت ميّتاً، وجبت الغرّة، كما لو انفصل
في حياتها)
الخاتمة:
تأسيسًا
على ما سبق قوله، فقد اختلفت وجهات نظر الفقهاء في الإجهاض، وإن كان إجماعهم قد انعقد
على حُرمته بعد نفخ الروح, إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك, والضرورة تقدر بقدرها.
والمسألة خلافية فيما بينهم في حكم الإسقاط قبل نفخ الروح, فمنهم من منعه مطلقاً, ومنهم من
قال بالكراهة, ومنهم من أجاز بعذر, لكنَّ ومع كلِّ هذا, فالشريعة جاءت برفع الحرج ودفع
الضرر، من هنا وجدت حالات استثنائية خاصَّة جداً يجوز فيها إسقاط الجنين، وهي التي
يصح أن توصف بالعذر الشرعي, وهذا ما تقضى به
مقاصد الشريعة وأدلتها العامة، قال تعالى
(...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...) البقرة الآية(185) ، و(ما خُير الرسول صلى الله
عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما)
خلاصة
القول والذي بات واضحًا لنا، حُرمة الإجهاض على طلاقة هذه الحُرمة، مع عدم إغفال الضرورات،
فلها حكمها، لأنه يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها، كما يقول أهل العلم، فالإسلام
لا يسد الطريق أمام ذوي الأعذار, والحاجات.
المراجع:
القرآن
الكريم
محمد
سعيد البوطي (مسألة تحديد النسل وقاية وعلاجا)
المرادوي
(الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الامام احمد ابن حنبل)
ابن
رجب الحنبلي (جامع العلوم والحكم)
الرملي
(نهاية المحتاج)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق