المبحث الثاني
لم يقف الباحث إلا على إشارات إلى هذا التصرف في بعض مراجع الفقه الإسلامي القديمة وتحديدا قول الأمام احمد بن حنبل وابن حجر الهيثمي، حيث قال ابن حجر –رحمه الله (إذا قسم الأب ما بيده بين أولاده، فإن كان بطريق أنه ملَّك كل واحد منهم شيئاً على جهة الهبة الشرعية المستوفية لشرائطها من الإيجاب والقبول والإقباض أو الإذن في القبض، وقبض كل من أولاده الموهوب لهم بذلك، وكان ذلك في حالة صحة الواهب جاز ذلك، وملك كل منهم ما بيده لا يشاركه فيه أحد من إخوته) ([10]).
كما ان ابن قدامة ذكر أن الأمام احمد بن حنبل قال في هذه المسالة (أحب ألا يقسم ماله، ويدعه على فرائض الله تعالى لعله أن يولد له فإن أعطى ولده ماله، ثم ولد له ولد فأعجب إليَّ أن يرجع فيسوي بينهم، يعني يرجع في الجميع أو يرجع في بعض ما أعطى كل واحد منهم ليدفعوه إلى هذا الولد الحادث ليساوي إخوته) ([11]).
أما في العصر الحاضر فقد أصبحت قسمة الإنسان لماله في إثناء حياته ظاهرة عامة منتشرة تستدعي الدراسة والبحث,ولذلك فقد اختلف العلماء المعاصرون بشأنها اختلافاً واسعاً ومتشعباً حيث,وردت أقوال العلماء متناثرة كل عالم على حدة,وذلك في مراجع ومصادر وشتى, فمنهم من ذهب إلى عدم جواز إجراء هذه القسمة ومنهم من ذهب إلى جوازها شريطة أن تكون كقسمة الميراث,في حين ذهب آخرون إلى جواز إجرائها شريطة أن تتم على سبيل العطية أو الهبة وليس كالميراث,وهناك من ذهب إلى كراهة إجراء هذه القسمة وأنها خلاف الأولى, حيث اختلف العلماء في هذه المسالة على أربعة أقوال هي:
القول الأول: قسمة الشخص لأمواله في أثناء حياته غير جائزة مطلقاً، وهو قول الأمام احمد بن حنبل من المتقدمين، وقول جماعة من العلماء المعاصرين منهم، د.علي جمعة مفتي مصر ود.عبد العزيز عزام أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر ود.محمد سيد احمد المسير الأستاذ في كلية أصول الدين جامعة الأزهر وابن عثيمين والشيخ عبد المحسن بن حمد العباد وعبد الحميد الهضابي من علماء السعودية([12]).
واستدلوا على قولهم بالآتي:
قسم الله تعالى المواريث وحددها، ولم يترك أمرها لأحد غيره، فالتقسيم على الورثة مرده إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يحكم الوارث والورثة، وليس لهم إلا أن ينفذوا حكم الله ومن فعل غير ذلك فقد ظلم وتجاوز الحق والعدل، وحكم على نفسه وعلى غيره بالظلم، وعرض نفسه لغضب الله ومقته([13]) فقسمة الشخص لماله في أثناء حياته اعتداء على حكم الله ورفض لقضائه العادل الحكيم.
ويناقش هذا الاستدلال: بان العطية والهبة والمساواة بين الأولاد كذلك من أحكام الله التي يجب العمل بموجبها مثلها في ذلك مثل القسمة بعد وفاة المورث.
أعمار الناس بيد الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يعلم متى يموت المورث والوارث يقول تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) ([14])، ولذلك فإن القسمة في أثناء الحياة يتنافى مع الإيمان بالله والتوكل عليه والثقة به([15]).
ويناقش هذا الاستدلال: بأن كل إنسان سيموت حتما سوى كان مورثا أو غيره تطبيقاً لقوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) ولذلك لا يتنافى تقسيم الشخص لماله في أثناء حياته مع التوكل على الله. 3- تقسيم التركة في أثناء حياة المورّث ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ،ولم يندب أمته إلى ذلك، فضلا أنه لم يحثّ أو يرغّب في ذلك، وكذا لم يفعل هذا أحد من الصحابة.
ويناقش هذا الاستدلال: بان هذه القسمة لها أصل في السنة النبوية لأنها من ضمن تطبيقات العطية والهبة المنصوص عليهما في أحاديث نبوية كثيرة منها حديث النعمان بن بشير الاتي ذكره ضمن أدلة القول الثالث. 4- من شروط قسمة التركة تحقّق موت المورّث عملا بقوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ ازواجكم) [النساء: 12] والإنسان ما دام حياً فلم يترك شيئاً، وهذا غير متحقّق في من يقسم ماله في أثناء حياته على ورثته المحتملين.
ويناقش هذا الاستدلال: بان قسمة الإنسان ماله في أثناء حياته ليس من قبيل قسمة الميراث بمفهومها الشرعي ولا تسري أحكام الميراث على هذه القسمة. 5- القسمة في أثناء حياة المورث تفتح باباً واسعاً للحيلة على بعض الورثة, حيث يحرم بعض الورثة من أنصبتهم في حين تزيد أنصبة أخرين من دون حق خلافاً لفرائض الله التي افترضها.
ويناقش هذا الاستدلال: أن خشية الحيلة لا تبرر تعطيل أحكام العطية والهبة، كما أن شفقة الأب وحبه لأولاده تحول دون وجود الحيلة، كما أن وجود حيلة في قسمة ما لا يعني وجود الحيلة في القسمات كلها. 6- قد يتزوج الشخص الذي يقسم ماله زوجة أخرى ويرزقه الله أولاد آخرين، فيحرمون من أمواله، وهذا ليس عدلاً ولا إنصافاً، بل إجحافا وظلما.
وبناقش هذا الاستدلال: بان هذا الأمر نادر، لان الغالب أن الأشخاص لا يقسمون أموالهم إلا بعد التوقف عن الإنجاب([16]). 7- قد يموت أحد أولاد الشخص الذي قسم ماله قبل أبيه, فحينئذ لا يحقّ لأبناء الابن المتوفى قبل أبيه أن يأخذوا شيئا من التركة ، وذلك لوجود جدهم أوجدتهم و أعمامهم أو عماتهم، لأنهم محجوبون بهم لأن هؤلاء الأولاد أي: حفدة المتوفى لا يرثون شيئاً مع وجود أعمامهم أو عماتهم وهم محجوبون بأعمامهم وعماتهم ([17]).
ويناقش هذا الاستدلال: بان وراثة أبناء الابن المتوفى في أثناء حياة أبيه محل خلاف بين الفقهاء فلم يقل بعدم توريث أبناء الابن في هذه الحالة إلا الحنفية والزيدية، في حين يذهب آخرون إلى توريثهم، بل أن من ذهب إلى عدم التوريث قد قرر لهم ما يسمى بالوصية الواجبة.
قد يموت بعض ورثة الشخص الذي قسم ماله قبل الشخص، فينقلب الوارث مورثاً.
ويناقش هذا الاستدلال: بان هذا من الحوادث العارضة أي الاستثنائية، والشرع مقرر أصلا للغالب وليس للعارض. 9- لو قسّم الأب تركته بين الأبناء فإنه سيبقى على شيء لنفسه يعيش منه، ولذلك فإنهم سيختلفون أيضا على ما تبقّى له من مال, وعندئذ ينتفي الباعث على قسمة المال في أثناء الحياة.
ويناقش هذا الاستدلال: بان الخلاف لو حصل بين الورثة فسيكون محصورا ومحدودا بحدود المال المتبقي القليل ولن يكون كالخلاف في حالة عدم قسمة المال كله. 10- قد يقسم الشخص ماله على أبنائه ويبتليه الله بأنواع من البلايا والأمراض، ولا يجد من يعطيه تكلفة علاجه وما يحتاجه من الضروريات فضلا عن الكماليات.
ويناقش هذا الاستدلال: بان هذا الأمر غير مطرد، فالغالب أن الأبناء يبرون بإبائهم والشرع للغالب.
11- أن الشخص إذا قسم ماله بينهم فربما يوفق أحدهم فيما أخذه فيتجر به ويزداد وينمو ويكون عند الموت ما بيده أكثر ما بيد الورثة الآخرين فيوقع هذا في قلوبهم شيئاً.
ويناقش هذا الاستدلال: بان هذا الشيء الذي يقع في نفس بعض الأبناء أقل ضررا ومفسدة من أضرار ومفاسد الخلاف بين الورثة على القسمة بعد موت مورثهم. القول الثاني: يجوز للشخص قسمة أمواله في أثناء حياته شريطة أن بتم ذلك كقسمة الميراث تماماً، وهو قول د.صبري عبد الرؤوف أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر وهو قول غالبية علماء السعودية، وقد تضمنت هذا القول فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى بالسعودية ولجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامي، وبه قال د.علي محيي الدين القره داغي عميد كلية الشريعة بجامعة قطر ود. احمد الحجي الكردي الأستاذ بجامعة قطر والشيخ صالح الفوزان من السعودية([18]).
وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:
الله تعالى قَسَم بين الأولاد، فجَعَل للذَّكَر مثل حظ الأنثيين، والأَولَى الاقتُدِاء بقِسمة الله عند قسمة الشخص لماله على أولاده في أثناء حياته بإعتبار ذلك من قبيل العطية أو الهبة، ويناقش هذا الاستدلال بأربعة وجوه:
الأول: هناك فرق بين الميراث بعد الموت وبين تقسيم الشخص لماله في أثناء حياته لان ذلك يكون على سبيل العطية أو الهبة حال الحياة، من جهة أن الأول مختص بما بعد الموت، ولكل حالٍ
أحكام ([19])، ومن جهة أن الهبة تطوعٌ وليست فرضًا كالميراث، ولو أنزلنا العطية منزلة الميراث لما كان للعطية فائدة([20]).
الثاني: أن الشخص في الميراث يكون راضيًا بما فرضه الله تعالى، بخلافه في الهبة ([21])، فالتفضيل فيها يورث الوَحشة. ([22])
الثالث: الذَّكَر والأنثى يختلفان في الميراث بالعُصوبة، أما بالرحم المجردة فهما فيه سواء، كالإخوة والأخوات من الأم ([23]).
الرابع: أنّ التُّهمة في قسمة الميراث مُنتفية وفي العطية واردة ([24]).
العطية والهبة في الحياة مثل الميراث بعد الموت, فيُجعَل للذَّكَر منها مثل حظ الأُنثيين, لأن العطية استعجال لما يكون بعد الموت, فينبغي أن تكون على حسبه, كما أن مُعجِّل الزكاة قبل وجوبها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها, وكذلك الكَفّارات المعَجَّلة، ويناقش هذا الاستدلال بأن قسمة المال بعد الموت قد فرَضَها الله تعالى فيحصل التمليك في الإرث بمجرد الموت ولو لم يرض الوارِّث أو المورَّث، أما العطية فهي على الاختيار ولا تنعقد إلا برضا طرفي العقد، فافترقا، والإرث لا يسمى عطية حتى يقال: إنه مثل العطية، إذ العطية تستدعي وجود مُعطٍ أو واهب ذي أهلية للتمليك، وهذه الأخيرة منتفيةٌ عن الميت، ولا يصح أن يقال: إن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، لأنه لا يُدرى من منهما سيُفضي إلى ربه أولا، ولا مَن سيرث مَن، والأقيسة المذكورة فاسدةُ الاعتبار، لأنها في مقابلة النصوص الشرعية -السالف ذكرها- الدالّةِ على جوار قسمة المال في أثناء الحياة على سبيل العطية واستواء الذكور والإناث في ذلك ([25]).
الذَّكَر أحوج من الأنثى إلى المال، لأنهما إذا تَزَوجا جميعًا، فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذَّكَر, والأنثى يتم الاتفاق عليها من قبل غيرها كزوج أو أخ, فكان الذكر أَولَى بالتفضيل لزيادة حاجته، ولذلك قسم الله تعالى الميراث, ففَضّل الذَّكَر مقرونًا بهذا المعنى فتعلَّل به, ويَتَعَدّى ذلك إلى العطية في الحياة، ويناقش هذا الاستدلال بأن التعليل بما ذُكِر ممنوع؛ لعدم الاطِّراد، فالإرث ثابت وإن لم يوجد ما ذُكِر، كأن لا يكون الذَّكَر الوارث متزوجًا فلا يكون ملتزمًا بنفقة وغيرها، أو يكون ذا زوجة غَنيَّة لا تحتاج لنفقته فتُسقِطها عنه، أو غير ذلك، ولا يُعَدُّ ذلك مانعًا له من الإرث، والشأن في العِلَّة أن يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا. فالمعنى المذكور حِكمة لا علَّة، والحِكمة لا يَلزم اطِّرادها، ولا يَضُرُّ تَخَلُّفُها.
ويناقش هذا الاستدلال أيضًا أن الذَّكَر أقدر على الكسب من الأنثى، فكانت أحق بالتفضيل، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وآلة وسلم بقوله: (لو كنت مُفَضِّلا أحدًا لفضَّلتُ النساء) ([26]).
القول الثالث: يجوز للشخص قسمة أمواله في أثناء حياته على أن يتم ذلك على سبيل العطية أو الهبة التي يتساوى فيها الأولاد ذكورا وإناثا شريطة أن يتم التقسيم في غير مرض الموت وان يقبض كل واحد ما يخصه من العطية أو الهبة في أثناء حياة المورث, وهو قول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني([27]) والسيد علي السستاني من علماء الشيعة الجعفرية([28]) وبه قال الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي مفتي عمان([29]) وهو قول د.صلاح الصاوي من علماء مصر وبه قال الشيخ عبد الكريم نجيب الخضير من علماء السعودية([30]), واستدل أصحاب هذا القول بالاتي:
1- قوله صلى الله عليه وآلة وسلم لبَشير: “أَكُلَّ ولدك نَحَلت مثل ما نَحَلته؟ قال: لا، قال: فلا أَشهَد على شيء أليس يَسُرُّك أن يكونوا إليك في البِر سواء؟ قال: بَلَى. قال: فلا إذًا” ([31]) فالنبي صلى الله عليه وآلة وسلم طلب من بَشِير أن ينحل كلَّ أولاده مثل ما نحل النُّعمان، ولم يَستَفصِل منه عن بقية أولاده، أذكور هم أم إناث؟ فدلَّ هذا على أنه لا فَرق بين الذكور والإناث في التسوية المطلوبة بين الأولاد في العطية وعلى جواز القسمة في أثناء حياة الإنسان وأنها تكون على التساوي بين الذكر والأنثى وهذا هو معنى ما ذكره الطحاوي، حيث قال: وفي حديث النبي صلى الله عليه وآلة وسلم: (ألك ولد غيره؟ فقال: نعم. فقال: ألا سَوّيت بينهم؟) ([32])، ولم يقل: ألك ولد غيره ذكَر أو أنثى؟ وذلك لا يكون وإلا وحُكم الأنثى في العطية كحُكم الذَّكَر، ولولا ذلك لما ذكر التسوية إلا بعد علمه أنهم ذكور كلهم، فلما أمسك عن البحث عن ذلك ثبت استواء حكمهم في ذلك عنده ([33]).
2- قوله صلى الله عليه وآلة وسلم لبشير: (أليس يَسُرُّك أن يكونوا إليك في البِر سواء) فهذا يدل على جواز القسمة في أثناء الحياة وعلى التسوية بين الأولاد ذكوراً وإناثاً الإناث والذكور، لأن البر مراد من البنت والابن لذلك يكون للأنثى من العطية مثلما للذَّكَر ([34]).
3- قوله صلى الله عليه وآلة وسلم: “فاتّقوا الله، واعدلوا بين أولادكم” ([35]) والعَدل هو التسَّوِيَّة؛ قالَ الرَّاغِبُ في مفرداته: “العدالة والمعادلة لفظٌ يقتضي معنى المساواة”([36])، فالمقصود أن العَدل التسويةُ في كل شيء حتى يقوم المُخَصِّص ([37])، فالأمر بالعَدل في الحديث يدل دلالة منطوق على طلب التسوية بين الأولاد لا فرق في ذلك بين ذَكَر وأنثى؛ فلفظ الولد في اللغة يطلق على الذَّكَر والأنثى، والتعبير بالجمع المُعَرَّف بالإضافة يفيد عموم الأولاد كلهم لا فرق بين ذَكَر وأنثى([38]).
4- أن النبي صلى الله عليه وآلة وسلم قال: “ساووا بين أولادكم في العَطيّة، ولو كنتُ مُؤثِرًا أحدًا لآثرتُ النساء على الرجال”، وفي رواية: “سَووا بين أولادكم في العَطيّة، فلو كنتُ مُفَضِّلا أحدًا لفَضَّلتُ النساء” ([39])، قال التهانوي: “وهو نَصٌّ في محل النِّزاع فلا يُعدَل عنه”([40]) وناقش ابن قدامة الاستدلال بهذا الحديث بأن التسوية فيه محمولة على القِسمة على كتاب الله تعالى. وأنه يَحتمل أنه أراد التسوية في أصل العطاء لا في صفته؛ فإن القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه، ويجاب على ذلك أنّ حمل التسوية في الحديث على القسمة على كتاب الله بعيدٌ غاية البعد؛ لأنه مخالف لأصل وضع التسوية المقتضي للمماثلة والمعادلة، قال في المصباح المنير: “ساواه مساواة: ماثله وعادله قدرًا أو قيمة” ([41]) وعَجُز الحديث -وهو قوله صلى الله عليه وآلة وسلم: “ولو كنت مُفَضِّلا أحدًا لفضَّلتُ النساء”- فمقابلة التسوية بالتفضيل تُعَيِّن أن التسوية المطلوبة لا تفضيل فيها أصلا، ودعوى الاحتمال في أنه أراد التسوية في أصل العطاء لا في صفته، يرده قوله صلى الله عليه وآلة وسلم في حديث النُّعمان: “أكُلَّ ولدك نَحَلت مثل ما نَحَلته؟” ([42]).
5- أن رجلا كان مع النبي صلى الله عليه وآلة وسلم، فجاء ابنٌ له، فقَبَّله وأجلسه على فَخِذه، ثم جاءت بنت له، فأجلسها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وآلة وسلم: “فهلّا عدلت بينهما”، وفي رواية: “فما عدلت بينهما” ([43])، فهذا شاهد في الجُملة لاعتبار التسوية المطلوبة أنها تكون بإعطاء كل واحد من الأولاد مثل ما أُعطِيَ الآخر، لا فَرق في هذا بين ذَكَر وأنثى، قال الإمام الطحاوي: “أفلا يُرَى أن رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم قد أراد منه العدل بين الابنة والابن، وأن لا يُفَضِّل أحدهما على الآخر، فذلك دليلٌ على العدل في العطية أيضًا” ([44]).
القسمة في أثناء الحياة تكون من قبيل عطية الأولاد، فاستوَى فيها الذَّكَر والأنثى كالنَّفَقة والكِسوة ([45])، وأيضًا فإنّ في التسوية تأليفًا للقلوب، وتفضيلُ الذكور قد يورث وَحشة بين الأخوة، فكانت التسوية أَولَى ([46]).
القول الرابع: قسمة الشخص لأمواله في أثناء حياته مكروهة، وهو قول جماعة من العلماء منهم د.يوسف البدري ود.احمد السيد علي إبراهيم من علماء مصر([47]).
وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة ذاتها التي استدل بها العلماء الذاهبون إلى عدم جواز قسمة الشخص لماله في أثناء حياته إلا أن هؤلاء العلماء الذاهبون إلى كراهة ذلك ذكروا أن تلك الأدلة تفيد الكراهة وليس التحريم.
الترجيح:
من خلال مطالعة أقوال الفقهاء وأدلتهم السابق عرضها ومناقشتها فنحن نميل إلى ترجيح القول الثالث الذي ذهب إلى جواز القسمة في أثناء حياة الإنسان وان يكون ذلك على سبيل العطية أو الهبة للأسانيد الآتية:
كثرة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول وسلامتها من المطاعن وقوتها في الدلالة.
هذا القول مناسب لمواجهة ومعالجة ظاهرة القسمة في أثناء حياة المورث وترشيدها، فهو أكثر مناسبة من الأقوال الأخرى بتحريمها أو كراهتها أو إجراء القسمة كالميراث.
ملائمة هذا القول ومناسبته للاعتبارات والدوافع التي تدفع الأشخاص لقسمة أموالهم في أثناء حياتهم.
هذا القول متوسط قياسا بالأقوال الأخرى، حيث أن هذا القول في غاية الاعتدال.
يحقق هذا القول مقاصد الشريعة في تجفيف منابع الخلاف والشقاق بين الورثة مما يسهم في وجود مجتمع مسلم قوي متماسك خال من اسباب الشقاق والخلاف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب ماتريد قوله للمحامي أمين الربيعي