الصفحات

الثلاثاء، 22 فبراير 2022

 

الإعسار في الفقه والقانون المدني اليمني

 

 

مقدمة:

لما كان الإعسار من الوسائل المتاحة للمدين لكي يتم بموجبها إطلاق سراح المدين وفقاً لما بينته الأحكام الشرعية والقانونية، ولكثرة ما تمت إثارته من دعاوى ودفوع أمام المحاكم القضائية في مدى جواز الأخذ بالإعسار والشروط المطلوبة لذلك من حيث الفقه والقانون, ما بين من يتوسع فيه و آخر يضيق في نطاقه، ولكثرة تباين تطبيقات السوابق القضائية الغير المنشورة, كان ذلك دافعاً لي للتطرق لموضوع الإعسار في الفقه والقانون، ولهذا فإن بداية بيان أي موضوع لا يأتي الا من خلال تناول المعنى الحقيقي والمجازي في اللغة والاصطلاح وبيان آراء الفقهاء في مدى قبوله والبينة عليه فقهاً وقانوناً، والبحث عن السوابق القضائية والموازنة بين الفقه والقانون, ولهذا نبدأ في تعريف الإعسار لغة واصطلاحا من خلال بيان ذلك في المبحث التمهيدي من هذا البحث :

مفهوم الإعسار في الفقه الإسلامي:

 

تعريف الإعسار لغة: 
عسر  الأمر عسراً مثل قرب قرباً وعسارةً بالفتح فهو عسير، أي صعب شديد، ومنه قيل للفقر عسر.

وقال الزمخشري: عسر: العٌسْرٌ ضدّ اليٌسْر ، وعسر الأمر ضاق.[1]

 وعسر عليَّ فلان: خالفني ، ورجل عسر وهو نقيض السهل… ولا تعسر غريمك ولا تعسره لا تأخذه على عسرةٍ ولا تطالبه إلاّ برفق.
وجاء في محيط المحيط: ( عسر ) الغريم يعسٌره ويعسِره عسراً وعٌسراً طلب منه الدَّيْن على عسرةٍ.[2]
ومن خلال ما ورد في المعاجم لتعريف العسر يتّضح أنّه ضدّ اليسر ، وأنّه بمعنى العسير ، وهو الصعب الشديد ، ولذا قيل للفقر عسر.
واليسر في اللغة: اليسر بالفتح ، ويٌحرَّك ؛ اللّين والانقياد .. واليسر بالضمّ وبضمّتيْن ، واليسارٌ واليسارةٌ والميسٌرة مثلّثة السين السهولة والغنى ، وأيسر يساراً صار ذا غنىً فهو موسر ، الجمع مياسير ، واليسر ضدّ العسر.[3]

الإعسار في الفقه:

و خلال البحث عن مفهوم الإعسار في الفقه, فأن بيانه يستخلص من بيانهم للمعسر كما هو حال الإفلاس، ومن أهم التعريفات التي عرفت المعسر ما يلي:

-عرف الكاساني([4]) من الحنفية بقوله عن المعسر ( هو الذي يحل له أخذ الصدقة، ولا تجب عليه الزكاة وهو المحتاج)([5]) فيكون الإعسار بحالة الشخص الذي لا يصل ماله نصاب الزكاة ويحل له أعطاه سهم منها.

-وقد عرفه الدسوقي([6]) من المذهب المالكي في حاشيته بقوله ( المعسر الحقيقي وهو الذي ليس عنده ما يباع على المفلس([7])) وهنا يتميز كلا المعسر والمفلس فالمعسر أسواء حالاً من المفلس فهو ضيق الحال من جهة عدم المال وهذا قد يوجد في المفلس و قد لا يوجد.

-وعرفه الصنعاني من الزيدية بقولة عن المعسر الذي لا يملك النصاب ويقصد بذلك الزكاة([8]).

وبهذه التعاريف يمكن القول بأن الاعسار كون الشخص في الحالة التي لا يملك شيئا سوى ما لزمة من ملبس ومأكل, بحيث ان لا يجد في ملكة شيء اذا باعه لاستطاع أداء الدين من ثمنه, فهو لا يملك شيء الا مما له من اشياء ضرورية تلزم له فقط.

v       مفهوم الإعسار في القانوني اليمني:

بالرجوع الى نص المادة (359) من القانون المدني, فقد عرفت المعسر بقولها (هو من لا يملك شيئاً غير ما استثنى له مما لا يجوز الحجز عليه او بيعه وهو مما يحتاجه من مسكن وثياب صالحين لمثله ...) ومن خلال التعريف بالمعسر يظهر جلياً ان القانون اليمني في تعريفه لم يخرج عن المعنى الموضوع له في الشرع وذلك من عدم القدرة على الأداء والكسب وحيازته تشمل على الضروريات المستثناة له في باب الزكاة([9]).

 

الفرق بين الإفلاس والإعسار في القانون اليمني:

من خلال ما نصت عليه المادة (395) من القانون المدني نجد انها قد بينت الفرق بين كلاً من المعسر والمفلس وذلك في قولها (والمعسر هو من لا يملك شيئاً غير ما استثنى لـه مما لا يجوز الحجز عليه أو بيعه وهو ما يحتاجه من مسكن وثياب صالحين لمثله وآلة حرفته إذا كان ذا حرفة وكتبه إذا كان ذا علم وقوته ومن تلزمه نفقته من الدخل إلى الدخل والمفلس هو من لا يفي ماله بديونه .)

فيكون المعسر أسوأ حالاً من المفلس, كون المعسر لا يملك الا ما هو ضروري له، فليس كل معسر مفلساً ولكن كل مفلس معسر، فقد يكون الشخص معسراً ولكن لم يحكم بإفلاسه بعد، ولكن يكون لدائنيه الحق في طلب الحكم عليه بالإفلاس فيترتب الإفلاس أحكامه وهي الحجر على المفلس طبقاً لنصوص القانون([10]).

وبمقارنة ذلك مع احكام الشريعة نجد ان المشرع اليمني في القانون المدني لم يخرج عن الاطار الذي بينه في التفرقة بين حاله الاعسار والإفلاس، غير ان الاختلاف في ماهية المفلس والمعسر قد ظهر بارزاً في الشكل التنظيمي في القانون التجاري, حيث يختلف ايضاً عن الإعسار ويمكن اجمال ذلك من ناحية([11]):

1- ان الإفلاس التجاري مناطه يكون بمجرد توقف المدين التاجر عن الوفاء بدين عليه في الميعاد المحدد سوأ زاد ماله عن الدين ام قل، بينما الاعسار يقتصر على الشخص العاجز عن دفع ديونه كون ان ماله اقل مما له.

2- لا ينظر الى الإفلاس التجاري حال التاجر ما إذا كان المدين معسراً او موسرا, فقد تكون امواله ضعف ديونه كان تكون عقارات او منقولات يعتذر بيعها لوفاء الدين من ثمنها، حيث يجوز شهر افلاس المدين مهما بلغ من اليسار.

3- تكون المحكمة ملتزمة بإصدار حكم الإفلاس من تلقاء نفسها طالما توافرت شروطه، اما حالة الإعسار فسلطتها تقديرية.

4- عدم وجود فكرة التصفية الجماعية([12]) في أموال المعسر كما هي في القانون التجاري اليمني.

5- ان المعسر لا ترفع يده عن إدارة امواله كون ان الإعسار يثبت بإحالة الشخص, فقد يكون الشخص معسراً ومع ذلك له مطلق إدارة أمواله كون ان المنع من الإدارة يدخل في الحجر, ولان الفقهاء ذكروا المحجور عليهم والمعسر ليس منهم حسب ما سياتي بيانه في الحجر، كما ان المعسر يحتاج الى شهر إعسار ان كان له ديون مستحقة, بخلاف المفلس الذي يشهر لمجرد توقفه عن الدفع للديون .

6- فيما يتعلق بالمدين المعسر يحيل بينه وبين دائنيه إلى أن يثبت إيساره، إما المدين المفلس فلدائنه طلب الحجر عليه بسبب الدين، بمعنى الحجر لمصلحة الغير الدائنين وليس الحجر لنقص الأهلية أو انعدامها او لسفه أو لغفلة ([13]).

تنبيه:-

بخصوص موضوع الإفلاس الذي تم تنظيمه في القانون المدني اليمني يقصد به المفلس ( المعسر) الغير التاجر وبهذا فهو ينظم المسائلة التي يوجد بها المفلس في الحالة المدنية, خلافاً عما جاء في القانون التجاري الذي ينظم حالة المفلس التاجر بسبب الدين, لأن شهر إفلاس المدين التاجر أو إعسار المدين الغير التاجر يؤدي في كل الأحوال إلى حالة الإعسار الذي يمثل حالة الشخص الذي لا يملك سوى حاجياته الضرورية، كون ما يملكه المدين المفلس التاجر او غير التاجر يكون من حق الدائنين كون ماله يمثل الضمان العام لجميع الدائنين، وبهذا اذا ذكر مصطلح المفلس في القانون المدني فهو يقصد بذلك المعسر مدنياً وليس التجاري, و الا لما كان هناك حكمة من إضافة تنظيم يتعارض مع تنظيم اخر للقانون، وهذا لبس يجب على المشرع اليمني تداركه وتصحيحه[14].

أنواع الإعسار :

ينقسم الإعسار إلى قسمين هما:

1-  إعسار فعلي :

 وهو أن حقوق الشخص لا تساوي واجباته, ويعني حالة واقعية تنشأ من زيادة ديون المدين غير المستحقة الأداء على أمواله .

 فأموال المدين لا تكفي لسداد ديونه ، سواء كانت مستحقه الأداء أو غير مستحقة, ما دامت محققة الوجود على حقوقه.

2-  - اعسار قانوني :

ومؤداه أن حالة قانونية تنشأ من زيادة ديون المدين المستحق الأداء عن أمواله .ولا بد من شهرها بموجب حكم قضائي يجعل المدين في حالة إعسار.

والآثار التي يرتبها القانون على الإعسار القانوني قد لا يرتبها على الإعسار الفعلي, فسنرى أن سقوط الأجل ومنع المدين من التصرف إنما يترتب على الإعسار القانوني، لا مجرد الإعسار الفعلي

ما يتحقق به الإعسار في الفقه:

يجب على المدين أن يدفع دينه إذا حل وقته وطالبه الغريم حتى أنه يجب عليه أن يبع أمواله لذلك, و أستثني ما يحتاج إليه من البيت والفراش واللباس، وسائر الأمتعة اللائقة بحاله، و المركوب إذا كان من شأنه، بل وكتب العلم المحتاج إليها للزوم العرس والحرج من بيعها، وحينئذ يتحقق إعساره لو لم يكن عنده مال زائداً على المستثنيات المذكورة, وفي قوله تعالى ] وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ[([15])، نوع إيماء يهون عليهم في مقابلة إرهاقها ومن هنا أسقط الشارع التكاليف ، ولا يتحقق صد الميسرة بها لأن المراد بذي العسرة الشدة والضيق ولا ريب في تحقق الشدة والضيق عليه لو كلف ببيع ضرورياته.

 ويثبت الإعسار :

اولاً: إقرار المستحق:

أي الدائن فإذا أقر أن مدينه معسر فإنه يؤخذ بإقراره وينظر المدين استنادا للآية السابقة، هذا إذا كان الغريم واحداً ، أما إذا تعددوا ووافق بعضهم دون بعض، فيثبت في حق الموافق .

ثانياً: قيام البينة  عند الحاكم أو اليمين:

فإن تناكر الغريم والمديون في الإعسار وعدمه وكان للمديون مال ظاهر غير المستثنيات لم يقبل دعواه، وأمره الحاكم بالتسليم، فإن  امتنع فالحكام بالخيار بين حبسه حتى يوفي بنفسه لوجبه عليه، وبيع أمواله وقسمتها بين غرمائه , لأنه ولي الممتنع، وإذا شهد البينة بتلف أمواله قضى بها ولم يكلف اليمين ولو لم تكن البينة مطلعة على باطن أمره.[16]

ثالثاً : حصول العلم للحاكم بالإعسار

حصول العلم للحاكم بالإعسار من أي طريق كان وحكمه به بناءَ على إمكان حكم الحاكم بعلمه في مثل ذلك.

ثبوت حالة الإعسار في القانون المدني اليمني :

ثبت حالة الإعسار في القانون المدني بنص المادة (362) متى كان ظاهر حالة الإعسار في المدين ظاهرة وفي هذه الحالة يقبل بيمينه، ويحلف كلما أدعى إيساره ومضت مدة يمكن فيها الإيسار عادة.

وإذا التبس الامر بين إيسار الشخص و إعساره فهنا تسمع البينة  على إيساره او إعساره ويرجح الحاكم وتقدم البينة المثبتة على النافية.(363)

ومسالة تقرير حالة الإعسار مسالة تقديرية للقاضي الموضوع في ذلك مثبته من باطن النص القانوني.

الاستدانة مع الإعسار:

صرح الفقهاء بوجوب إنظار المعسر ، و أنه لا يجوز إلزامه ولا مؤاجرته, استناداً للآية السابقة، وبهذا يقول الإمام الصادق في وصيته إياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله وهو معسر، فإن أبانا رسول الله (ص) كان يقول ليس لمسلم أن يعسر مسلماً ومن أنظر مسلماً أطله الله يوم القيامة بظله يوم لا ظل إلا ظله.[17]

مدى إيقاع الحبس بالدين لدى الفقهاء:

إذا ثبت الحق وتعذر استيفاؤه، لم يخل إما ان يكون التعذر بسب الإفلاس لعسر، وإما ان يكون بسبب الامتناع من عليه الحق من تأديته، فمتى ثبت إعسار المدين عند الحاكم، ذهب جمهور الفقهاء لم يكن لأحد مطالبته وملازمته.([18]) لقولهU ] وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ[([19])، وقال أبو حنيفة لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب، واستدلاله في ذلك قول النبي r {إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدَ وَاللِّسَانَ}([20]).

وذهب من فقهاء الحنابلة إلى عدم مطالبة صاحب الحق، إن ثبت بالبينة انه لا مال له، كما لو كان دينه مؤجلاً، ومن وجب إنظاره، حرمت ملازمته، لوجوب النظرة إلى الميسرة بالنص السابق، و لحديث النبي r «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» وأن فك الحجر عنه لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته، حتى يملك مالا([21]) وعلل فقهاء الحنابلة بوجوب النظرة لأن الحبس لا يكون مفيداً في اقتضاء الدين, لأن الحبس شرع للتوسل إلى القضاء لا لعينه([22])، و أضاف المالكية والشافعية إلى ثبوت حالة العسر في حال من كان ليس مال، ان يحلف للحاكم انه ليس له مال ظاهر ولا باطن([23])

والحبس عن الحنفية على نوعين, الأول حبس المديون بما عليه من الدين، وحبس العين بالدين، أما الأول فالكلام فيه وجوب الحبس للدين قل أو كثر حسب الشروط التي ترجع إلى الدين، وبعضها يرجع إلى المديون، وبعضها يرجع إلى صاحب الدين.

 والحبس لأجل الدين لدفع الظلم المتحقق بتأخير قضاء الدين، لأن صاحب الدين هو الذي أخر حق نفسه بالتأجيل، اما النوع الثاني فليس حديثه هنا .

وإن امتنع من عليه الحق من أداء ما عليه، فيذهب جمهور الفقهاء([24])، أن من وجب عليه دين حال، فطولب به ولم يؤده نظر الحاكم فإن كان في يده مال ظاهر أمره بالقضاء فإن لم يكن هناك بينه لعسرة حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد حتى يقيم البينة، لقول رسول الله r« لَيُّ الوَاجدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبتهُ ([25])», فإن حبسه الحاكم شهرين أو ثلاثة أشهر يسال عن حاله, فإن لم ينكشف له مال خلى سبيله، و إذا مرض وليس له أحد يعاهده أخرج من السجن بكفيل فإن لم يجد الكفيل لا يطلقه،([26]) .

وذهب الحنابلة إذا ثبت عند القاضي السبب في الدين واشتبه في حاله يسار المدين وإعساره, حبسه ليتعرف عن حاله أنه فقير أم غنى كون الحبس وسيله إلى حق الغريم, فإن علم أنه غني حبسه إلى أن يقضي الدين؛ لأنه ظهر ظلمه بالتأخير، وإن علم أنه فقير خلى سبيله؛ لأنه ظهر أنه لا يستوجب الحبس فيطلقه، لقوله U ]كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ([27])[ ولكن لا يمنع الغرماء عن ملازمته، كما ان الولد يحبس بدين الوالد؛ لأن المانع من الحبس حق الوالدين([28])،وفي دعوى الغرماء وتحليفهم أنهم لا يعلمون إعساره يذهب الشافعية، انهم ان نكلوا حلف وثبت إعساره, وان حلفوا حبس وتقبل دعواهم([29]).

فإن أصر المدين المليء على الحبس ولم يقبض الدين باع الحاكم ماله وقضى دينه([30]) لما روى كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - « أَنَّ رَسُولَ اللهِ r حَجَرَ عَلى مُعاذِ مَاَلَهُ وَباَعَهُ فِي دَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ([31]) ».

وقد تميز فقهاء المالكية عن غيرهم في بيان إيقاع الحبس حيث ينظر إلى حالة المدين وهي ثلاثة حالات([32]):-

1-  غريم غني :

 فتعجيل الأداء عليه واجب وملطه به عليه حرام غير جائز؛ لقول رسول الله e«مطل الغني ظلم([33])».

2-  معسر ليس بمعدم :

وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضربه، فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضره تلحقه، مرغب فيه ومندوب عليه؛ لقول رسول الله e «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله([34])»

3-  المعسر المعدم :

 وهذا فتأخيره إلى أن يوسر واجب، والحكم بذلك لازم تبعاً للأدلة التي سقناها، فمذهب المالكية يذهب في حاله جهالة المدين إلى إلان الاصل في الانسان هو العسر؛ لأن الناس محمولون على الملاء, وهذا مما قدم فيه الغالب على الأصل؛ لأن الأصل في الإنسان أن يولد فقيراً لا ملك له، والغالب من شانه التكسب وعليه يجب إنظاره([35]).

4-  من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم:

فقد يكون حاله مجهول من غير تهمة كما قد تلحقه تهمة الكذب.

 

         ‌أ-       مجهول الحال من غير تهمة : وهذا يحبس بقصد اختباره ويختلف مقدار حبسه باختلاف كثرة الدين وقلته.

        ‌ب-     مجهول ولحقته تهمة : وذلك إما بكونه أخفى ماله قصدا لحرمان غرمائه وإما بكونه أخذ أموال الناس وزعم تلفها فحكمة هو الحبس .

        ‌ج-      أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم فتبين كذبه, فإنه يحبس أبدا حتى يؤدي أموال الناس أو يموت في السجن([36]).

و بهذا فإن إجماع الفقهاء القائلون بمبدأ الحجر على أن المدين المستحق للحجر هو المدين الممتنع عن الوفاء بديونه دون سبب مشروع، أي المماطل في الوفاء بالدين المستحق حالاً، وتسويف قضائه من وقت لآخر تعود بالضرر بالدائن, وبهذا فالحجر وفقاً لما سبق نستخرج الآتي:-

1-  الأصل هو ان يقع الحجر على المدين المماطل الممتنع عن الوفاء للدين الحال .

2-  لا يقع الحجر على المدين الثابت إعساره, فمن عجز ماله عجزاً مطلقاً عن الوفاء بديونه فلا فائدة من تطبيق الحجر عليه وحبسه كما هو موضح سلفاً.

3-  من وقع حاله بين الإعسار والايسار ولم يتبين حقيقه وضعه, كان للقاضي استخدام ما يبين له حال المدين من حيث العسر واليسر، مستخدماً بذلك ما يتاح له من وسائل الإثبات الشرعية.

4-  يستحسن على الغريم الدائن في حاله عسر مدينه الانتظار إلى ميسره خيراً له من التعسير عليه وتضيق الخناق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَt، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ ابَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»([37]) فإن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يتصفوا بالصفات الحسنة، بل إنه يجازيهم على ذلك فعنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: « كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ([38])» وفي رواية لمسلم: "قال اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ([39])" والتجاوز هذا إما أن يكون بالإعفاء عنهم بالكلية, أو بالتجاوز عن البعض, أو بحسن المقاضاة وهذا كله من باب التيسيرفهذا الأحاديث تدل على أن إنظار المعسر إلى أن يوسر

5-  انه متى حجر الحاكم أو القاضي على المدين المفلس ومنعه من التصرف في ماله لبيعه وقسمته بين غرمائه، ينظر إلى حاله فإن ذا كسب يكتسب من عمل آخر كانت نفقته من كسبه دون ان يشملها الحجر، وان لم يكن له كسب فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله بما يكفيه هو ومن يعوله، دون اسراف او تقتير لقوله U ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا([40]) (فيكون إنفاقه بقدر الفرض المقرر في الحكم وينفذ كسائر الأحكام([41]).

6-  من أحكام الحجر بالدين في الإسلام ان تقدم النفقة على الدين([42])، لقول النبي r "ابداء بنفسك ثم بمن تعول([43])"، و بيان ذلك ظاهر حيث ان من مقاصد الشريعة ان حفظ النفس مقدم على حفظ المال.

7-  تعلق حق الغرماء بعين ماله ومنعه من التصرف بماله.

8-  الملازمة عند فقهاء الحنفية والحبس الاحتياطي للمدين، حسب ما ذهب اليه ابو حنيفة وصاحبيه.

9-  بيع مال المدين المحجور عليه وقسمة ثمنه بين الغرماء، ومن المستحسن ان يبيع القاضي مال المفلس بحضوره، ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالة.

الاثر القانوني المترتب على الحكم بالإعسار:

بناء على ما سبق من ظاهر النصوص ونص المادة ( 365) مدني التي تقضي ( إذا ثبت بحكم القضاء إعسار المدين حيل بينه وبين دائنه إلى أن يثبت إيساره)

وبهذا يتجلى لنا انه لكي توجد حالة الإعسار في القانون اليمني لا بد من شرط شكلي, يتمثل في وجود حكم إعسار يبين القاضي اسبابه استناداً إلى ما سقناه من أدلة شرعية وقانونية، ومتى ثبت الحكم فليس للغريم من حال في ذلك سوى الانظار إلى حين اليسر .

هذا ما تبين لي والله أعلم.

أحمد عبدالجبار علي التعزي

 

 



[1] اساس البلاغة 419

[2] قاموس محيط المحيط صـ600

[3] القاموس المحيط169

[4] أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاشاني [أو الكاساني، يروي بكليهما]، علاء الدين: فقيه حنفي، من أهل حلب، له (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - ط) سبع مجلدات، فقه، و (السلطان المبين في أصول الدين).توفي في حلب، انظر، خير الدين الزركلي، الأعلام ج/2 صـ70.

 

[5] الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تحقيق وتعليق علي محمد معوض و عادل أحمد عبدالله الموجود ج/5 كتاب النفقة صـ182، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت-لبنان الطبعة الثانية 1424هـ - 2003م.

[6] هو محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلدة دسوق من قرى مصر وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير تلقى الكثير من العلوم وكان من المدرسين في الأزهر له العديد من الكتب في فقه الإمام مالك توفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع ثاني 1230هـ أنظر الأعلام للزركلي ج/6 صـ17، و شمس الدين الدسوقي ( حاشية الدسوقي ) ج/1صـ555.

[7] شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي حاشية الدسوقي على شرح الكبير، ج/4 باب في الشهادة ما يتعلق بها صـ231، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه.

[8] احمد بن قاسم العنسي، ج2 باب من تصرف فيه الزكاة صـ207،مرجع سابق.

[9] اي ان ما يملكه لا يصير الى استحقاق دفعه الزكاة لعدم بلوغ النصاب، انظر نظام الإفلاس في الفقه الإسلامي، حسن حامد حسان صـ6

[10] د. حسن عبدة أحمد السراجي ، الحجر على المدين حماية لحق الغرماء دراسة مقارنة في القانون المصري – اليمني – الفقه الإسلامي،جامعة عين شمس، مصر - القاهرة. نسخة رقم 117 المكتبة المركزية – الشريعة والقانون جامعة صنعاء.

[11] عبدالرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني المرجع السابق صــ1214 /وردة دلال جرائم المفلس صــ35، د. عبدالرحمن السيد قرمان، الوسيط في قانون التجارة الجديد، الإفلاس و الصلح الواقي دار النهضة العربية للنشر الطبعة الاولى 2000م

[12] هو أنها التجارة، بما يضمن تعويض الدائنين او تسوية الديون و التوصل في تطبيق البيع على المخزون (راس المال) و اصوله لمصلحة ذوي الحق.

 Liquidation :- Cessation d'un commerce, d'une association, impliquant le recouvrement des créances, le règlement des dettes, la réalisation du stock et de l'installation, et l'attribution du solde aux ayants droit, Larousse Dictionaries de François Page 47359.

 

[13] د. عبدالرحمن شمسان، مجلة كلية التجارة والاقتصاد العدد 45 مارس 2016م.

[14] الإفلاس وأثره في الاشخاص في  الفقه والقانون اليمني ، احمد عبدالجبار التعزي، صـ93 المعهد العالي للقضاء 2016م.

[15] البقرة 280.

[16] المسالك ج2 صـ129.

[17] الوسائل ج18 صـ322 ب 25 من الدين ح1.

[18] ابن قدامة ج/1 صـ 1010

[19] البقرة 280.

[20] رواة الدارقطني حديث رقم 4553، وهو مرسل، ورواه ابن عدي في الكامل عن محمد بن معاوية أبي معاوية النيسابوري ثنا بقية عن محمد بن زياد عن أبي عتبة الخولاني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لصاحب الحق اليد واللسان"، انتهى. وصحيح البخاري في الاستقراض، ومسلم في البيوع عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه، فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: "دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا" "، انتهى. حديث رقم 2609 صـ633، صحيح مسلم حديث رقم 1601 باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه ، وخيركم أحسنكم قضاء صـ752.

[21] ابن قدامة ج/1 صـ1010، نظام الدين ج/5 صـ79، البهوتي ج/3 صـ418

[22] الكاساني ج/10 صـ96 مصدر سابق.

[23] محمد الخرشي ، ج/5 صـ277 ، الشبراملسي ج/4 صـ333.

[24] ابن قدامة ج/1 صـ1010، البهوتى ج/3 صـ419، محمد الخرشي ج/5 صـ277.

[25] سبق تخريجه.

[26] نظام الدين ج/5 صـ79، الكاساني مصدر سابق.

[27] سورة النساء الآية 135.

[28] الكاساني ج/10 صـ 97، الرملي ج/4 صـ333 مصدر سابق.

[29] الرملي ج/4 صـ331 مصدر سابق.

[30] البهوتي ، ج/3 صـ420 مصدر سابق.

[31] سبق تخريجه.

[32] رشد القرطبي، ج2 صـ307 ، الفاسي ج/2 صـ433 مصدر سابق.

[33] رواه البخاري باب مطل الغني ظلم حديث رقم (2400) صـ577 مصدر سابق. جاء في نصب الراية ان الحديث ضعيف عن البخاري وانه في عداد من يضع الحديث، انظر جمال الدين الزيلعي، نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغيه الألمعي في تخريج الزيلعي ج/4صـ 60 تصحيح عبدالعزيز الديوبندي الفنجاني، اكمله محمد يوسف الكاملفوري، تحقيق محمد عوامة مؤسسة الريان للطباعة والنشر بيروت – لبنان دار القبلة للثقافة الإسلامية جدة- السعودية الطبعة الأولى 1418هـ- 1997م.وجاء في مسند الامام احمد ان إسناده صحيح على شرط الشيخين حديث رقم (7541) ج/12 صـ505.

[34] رواه مسلم ، باب حديث جابر الطويل حديث رقم (3006) ج/2 صـ1368 مصدر سابق.

[35] الخرشي ج/5 صـ276.

[36] أبو القاسم ، ابن جزي الكلبي الغرناطي، القوانين الفقهية بدون طبعة بدون تاريخ.

[37] رواه الامام أحمد ، مسند الامام أحمد حديث رقم 7427 ج/12 صـ393 تحقيق شعيب الأرنؤوط- عادل مرشد ، وآخرون إشراف د. عبدالله بن عبدالله المحسن التركي ، مؤسسة الرسالة للتوزيع والنشر الطبعة الأولى 1421هـ 2001م، رواه مسلم في صحيحه ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر حديث رقم 2699 صـ1242. وذكر عنه ابن حجر العسقلاني انه مرسل حسن الإسناد وما روي عن طريق عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير سندٍ حسن ، نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، ج/4 صـ355، تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي دار ابن كثير للتوزيع والنشر الطبعة الثانية 1429هـ - 2008م.

[38] رواه البخاري ، باب من أنظر معسراً حديث رقم 2078 ،وفي رواه مسلم ( كان يقول لفتاه) باب فضل إنظار المعسر حديث رقم 1562، مسند الأمام احمد ج/13 صـ7579.

[39] رواه مسلم حديث رقم 1561

[40] الفرقان الآية 67.

[41] تقي الدين السبكي ، فتاوى السبكي، باب التفليس ج/1 صـ339، دار المعرفة ، بيروت- لبنان.

[42] الشيرازي ، كتاب المجموع شرح المهذب للنووي تكملة السبكي والمطيعي. ، بقلم محمد نجيب المطيعي ، ج/12 صـ420، مكتبة الإرشاد ، المملكة العربية السعودية –جدة ، الطبعة الثانية

[43] أي بمن تمون وتلزمك نفقته من عيالك، بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما أنظر الامام احمد ج/12 صـ71.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب ماتريد قوله للمحامي أمين الربيعي